بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
محمد اسماعيل فهد عباس ولد بتاريخ 10 ديسمبر عام 1948م في مخيم اليرموك بدمشق وهو من بلدة طيرة حيفا، حيث هاجرت عائلته إلى مخيمات الشتات في سوريا بعد أن حلت النكبة بالشعب الفلسطيني عام 1948م وطرد من أرضه.
ينتهي نسب محمد عباس (أبو العباس) إل الشيخ ظاهر العمر الزيداني، أول زعيم استقلالي في تاريخ فلسطين خلال العهد العثماني.
أكمل أبو العباس دراسته الابتدائية والاعدادية والثانوية في مدارس وكالة غوث اللاجئين في مخيم اليرموك، بعدها التحق بجامعة دمشق حيث حصل على اجازة في الأدب العربي وعمل مدرساً للأدب العربي في المدارس السورية.
بعد هزيمة حزيران عام 1967م وانطلاق العمل الفدائي كانت الجبهة الشعبية (القيادة العامة) عنوانه الأول الذي يلج منه باتجاه الوطن الذي حلم به منذ نعومة أظفاره.
منذ أن أنتسب أبو العباس إلى الجبهة الشعبية (القيادة العامة) والتي يتزعمها أحمد جبريل قبل أربعة عقود توثقت علاقته بأبن عمه فؤاد زيدان الذي استشهد فيما بعد، وكذلك برفيق دربه المرحوم (نافذ طلعت) الشهير باسم طلعت، وكذلك بالرفاق علي اسحق، عمر شبلي، أبو الجاسم.
خلال الحرب الأهلية اللبنانية وبعد حصار مخيم تل الزعتر أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بدأت حالة من التبلور لصالح الانحياز للقرار الوطني الفلسطيني داخل الجبهة الشعبية (القيادة العامة)، فأنتفض أبو العباس معلناً فلسطينيته وانحيازه كلياً كما كان دائماً مع مجموعة من الرفاق ضد التدخل السوري في لبنان، وأيضاً ضد قرار أحمد جبريل الأمين العام للجبهة القيادة العامة المؤيد للتدخل السوري، فحدد كل من الرفيق/ طلعت يعقوب، والرفيق أبو العباس، ومعهم عدد من رفاقهم في المكتب السياسي واللجنة المركزية وعدد كبير من الأطر وكوادر واعضاء الجبهة موقفاً واضحاً ساعد على فرز واضح لجسمين تنظيميين يختلفان سياسياً وتنظيمياً مما أدى إلى انشقاق هذه المجموعة وأنعقاد المؤتمر الخامس الذي حدد العودة إلى الاسم الأول للجبهة وهو (جبهة التحرير الفلسطينية) وأنتخب المؤتمر الرفيق/ طلعت يعقوب أمينا عاماً والرفيق/ أبو العباس نائباً للأمين العام، وكذلك أنتخب المكتب السياسي والمكتب المركزي.
لقد آثرت قيادة الجبهة الوقوف إلى جانب م. ت. ف، والقوى الوطنية اللبنانية، بينما أختار أحمد جبريل الأمين العام (للقيادة العامة) الوقوف والانحياز إلى جانب سورية التي دخلت بعشرات الآلاف من قواتها العسكرية إلى لبنان في حينها.
ومنذ الإعلان عن تأسيس جبهة التحرير الفلسطينية بتاريخ 27/4/1977 لم تتنكر لمسيرتها ومنطلاقتها الوطنية والقومية حيث عبرت عنها وجسدت في مسيرتها النضالية الطويلة.
لقد أشرف الرفيق أبو العباس على عمليات بطولية عدة ضد الكيان الصهيوني أبرزها عملية الخالصة، ونهاريا، والأنزال البحري في ميناء أسدود، مروراً بعملية الباخرة الايطالية (أكيلي لاور)
أنتخب الرفيق أبو العباس عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، في بداية السبعينات، وعضواً في المجلس المركزي عام 1976م وعضواً في اللجنة التنفيذية ل. م. ت. ف عام 1984م، وانتخب أميناً عاماً لجبهة التحرير الفلسطينية في المؤتمر العام السابع الذي عقد في تونس في شهر أيلول عام 1985م.
على أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م كان الرفيق أبو العباس وقيادة الجبهة وكوادرها من المدافعين في بيروت للتصدي لهذا العدوان، حيث أصيب الرفيق أبو العباس في رأسه، وبعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان بعد صمود أسطوري دام ثلاثة أشهر، توجه الرفيق/ أبو العباس إلى الاتحاد السوفيتي للعلاج هناك، وخلال الانشقاق الذي حصل في حركة فتح في شهر مايو عام 1983م بدعم من الحكومة السورية، أعلن الرفيق أبو العباس صرخة مدوية دفاعاً عن م. ت. ف وكان من المدافعين عن شرعية المنظمة ووقف إلى جانبها وإلى جانب الرئيس الشهيد/ ياسر عرفات.
لقد أثر الانشقاق داخل حركة فتح إلى وجود خلاف داخل جبهة التحرير الفلسطينية، حيث وقف البعض ضد خطوة الرفيق/ أبو العباس وعلى الأثر تداولت قيادة الجبهة بضرورة عقد لمؤتمرها السابع ودعوة الرفاق أعضاء المؤتمر للحضور، حيث عقد هذا المؤتمر في تونس عام 1985م وغاب البعض عنه وكذلك غاب الرفيق/ طلعت يعقوب الأمين العام وبعض أعضاء المكتب السياسي، شكل هذا المؤتمر مرحلة جديدة في استنهاض وضع الجبهة، وأنتخب المؤتمر هيئاته القيادية، كما تم أنتخاب الرفيق/ محمد عباس (أبو العباس) أميناً عاماً للجبهة حيث تم رسم سياسة جديدة للجبهة للمرحلة القادمة.
بتاريخ 1/1/1985م قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مقرات القيادة الفلسطينية في تونس حيث أرادوا قتل الرئيس/ ياسر عرفات في تلك الغارات التي سقط فيها عشرات من الشهداء والجرحى من الفلسطينيين والتونسيين، ورداً على هذه الغارة قامت جبهة التحرير الفلسطينية بعملية فدائية أرادت فيها النزول بميناء أسدود وذلك بعد العدوان على مقرات المنظمة بأسبوع واحد، حيث كان المخطط أن يصعد عدد من المقاتلين التابعين للجبهة على ظهر باخرة إيطالية سياحية أسمها (أكيلي لارو) التي تقف في عدة محطات ومنها ميناء أسدود، حيث تم اختيار، تلك السفينة بعد استطلاع مركز وبعناية تامة، هذه السفينة تنقل سياحاً أجانب في رحلات طويلة لا تثير الشبهة صعد إلى السفينة ستة من المقاتلين باعتبارهم سياح إلاَّ أن العملية لم يكتب لها النجاح وأنكشف أمر المقاتلين بالصدفة بعد أن دخل فجأة أحد العاملين في السفينة الغرفة التي يتواجد بها المقاتلون وهم يستعدون لتجهيز أسلحتهم في الغرفة حيث قام بإخبار طاقم السفينة بما شاهده، مما حدا بالمقاتلين إلى تغير الخطة والاستيلاء على السفينة، وأثناء السيطرة على السفينة تم قتل مواطن من السياح من أصل أمريكي يهودي واسمه (ليون كلينجوفر وعمره 69 عاماً) والقائه في البحر، على أثر ذلك طلب من القيادة المصرية التدخل وقد سافر أبو العباس إلى مصر لأنهاء هذه المسألة حيث تدخل شخصياً، على أن يأخذ معه المقاتلين الستة، تم انهاء العملية وغادروا القاهرة على متن طائرة مصرية إلى تونس وكان معهم أعضاء من القيادة المصرية وأثنين على الطائرة أعضاء اللجنة التنفيذية، وفي الجو قامت المقاتلات الأمريكية باعتراض الطائرة المصرية وتم تحويل مسارها إلى ايطاليا وطلب منها الهبوط في مطار صقلية.
فشلت القرصنة الأمريكية في هدف اعتقال الرفيق/ أبو العباس الاَّ أن السلطات الايطالية أعتقلت المقاتلين الستة وتم محاكمتهم حيث قضوا في السجون الإيطالية فترة طويلة.
في العام 1988م وعندما عقد المجلس الوطني في الجزائر دورة الشهيد القائد/ خليل الوزير وتلاوة بيان الاستقلال، أعيدت اللحمة إلى جبهة التحرير الفلسطينية بعد الاختلاف وتعانقت أيدي الرفيقين/ طلعت يعقوب وأبو العباس، ولكن في غفلة فقد خطف الموت الرفيق/ طلعت يعقوب في الجزائر.
عارض الرفيق أبو العباس أتفاق أوسلو حيث أعتبره أتفاق سيء في تاريخ الشعب الفلسطيني مؤكداً أنه سوف يترتب عليه جملة من النتائج الكبيرة والخطيرة ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية.
عاد الرفيق/ أبو العباس إلى الجزء المتاح من أرض الوطن ليشارك في أعمال مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني عام 1996م في غزة وأعلن رفضه التوصيات الخاصة بإلغاء الميثاق الوطني، وقد حصل أبو العباس على رقم وطني.
أثناء وجود الرفيق/ أبو العباس في غزة قام بزيارة إلى طيرة حيفا مسقط رأس والده وأجداده.
هذا وقد أسقطت واشنطن أمراً باعتقال الرفيق/ أبو العباس من عدة سنوات، كما أعلنت اسرائيل عام 1999م أن أبو العباس غير ملاحق بسبب اختطاف السفينة بعد أن سمح له بالعودة إلى غزة حيث ثبت أنه غير متورط في نشاط ضدها.
غادر أبو العباس غزة وقرار الاستقرار في العراق الذي أحتضنه لسنوات في وقت عزت فيه الكرة الأرضية استقباله، وخلال الغزو الأمريكي للعراق تم اعتقال الرفيق أبو العباس بتاريخ 10/4/2003م وأودع السجن لمدة عام ذاق خلالها مرارة التعذيب الشديد، وتم منع عنه الدواء.
لقد كان اعتقال الرفيق/ أبو العباس دون مسوغ قانوني ودون توجيه أية تهمة إليه.
قالت واشنطن في حينها أن أبو العباس سوف يقدم للعدالة لكن القضية أصبحت متشابكة بسبب مشاكل قانونية ودبلوماسية مثل احتمال سقوط الاتهام بالتقادم ومصاعب تسليمه إلى إيطالية.
أستشهد الرفيق/ أبو العباس بتاريخ 8/3/2004م وهو في سجن القوات الأمريكية ورفضت إسرائيل أن يدفن جثمانه في فلسطين حيث نقل الجثمان ودفن في دمشق.
لقد شكل الاعلان عن استشهاد أبو العباس صدمة لدى الشعب الفلسطيني وفي أوساط جبهة التحرير الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وخاصة بما جسده من علاقات وتاريخ نضالي حافل وهو الذي أحب فلسطين وعمل من أجلها طوال سنوات حياته، استشهد ليرسي تاريخاً عريقاً وفصلاً ثورياً مقاوماً لا ينسى، وحضوراً متميزاً ليلتصق أسمه باسم الجبهة التي أرس دعائمها بالعمل المتواصل والنضال المستمر.
أبو العباس اسم ملأ الدنيا في حياته وفي نضاله وكشف الخداع والزيف الأمريكي والصهيوني على أمته وشعبه في مماته.
رحل رجل بكل المقاييس، أمضى حياته ونضاله من أجل امته وقضية شعبه، آمن بحقوقها وأدرك فداحة ظلم العالم لشعبه وفهم منذ نعومة أظفاره بعد أن عاش مآسي النكبة والهزائم أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
لقد أكتسب الرفيق/ أبو العباس موقعة القيادي من خلال التضحيات والعطاءات الثورية المتواصلة التي أهلته أن يرتقي في مراتب القيادة من عضو لجنة مركزية إلى عضو مكتب سياسي إلى نائب الأمين العام إلى تحمل مسؤولية الأمانة العامة للجبهة.
شخصية أبو العباس كانت شخصية فذة استطاعت أن تمسك بزمام أمور التنظيم رغم الصراعات التي شهدتها الساحة الفلسطينية.
كان أبو العباس يتمتع بالجرأة في اتخاذ القرارات الحاسمة التي تنسجم مع مصالح الشعب الفلسطيني، الَّا أنه كان هادئاً وموضوعياً في معارضته كان يؤمن تماماً بأن أرض فلسطين هي أرض الصراع الأساسي ومن أجل ذلك يجب توجيه كل الطاقات إلى ساحة الفعل الأساسية.
كان أبو العباس صاحب مواقف مبدئية ولم تخضعه العوامل الضاغطة لأخذ قرارات مخالفة لقناعاته رغم معرفته بالنتائج المتوقعة، فهو قد قصد العراق لأنه وجد فيها قلعة المقاومة ضد الأطماع الأمريكية ورغم معرفته بالتطورات الَّا أنه ظل وفياً لمبادئه ومتطلبات موقعة القيادي إلى أن تم اعتقاله على يدي الجيش الأمريكي واستشهاده في السجون.
رحمك الله يا أبا العباس (أبو خالد) وأســكنك فسيح جنانه.